کد مطلب:309776 شنبه 1 فروردين 1394 آمار بازدید:300

القسمت 13


یثرب تتألق فرحاً وقد عاد النبیّ ورایات النصر تخفق فوق رأسه. كانت سعفات النخیل تتمایل طرباً..

توجّه النبیّ إلی المسجد فصلّی ركعتین... كان المسجد هادئاً والسكینة نبع یترقرق فی جوانبه، نهض النبیّ واتجه صوب منزل فاطمة كعادته...

هبت الفتاة لاستقبال أبیها العظیم، و كانت ابتسامة مشرقة تضی ء قسمات وجهها الأزهر.

طبع الأب قبلة دافئة علی جبین ابنته أودعها كلّ معانی الاُبوّة والحبّ.. و وجدت فاطمة نفسها فی أحضان امّها الدافئة... دخلت عائشة و كانت تغار من فاطمة فقالت مستنكرة:

- اتقبلها وهی ذات بعل؟

أجاب النبی مداریاً:


- واللَّه لو علمت ودّی لها لازددت لها حباً.

أجابت ممتعضة:

- أنت لاتفتأ تكرّر ذلك و تذكر امّها العجوز و قد هلكت فی الدهر الأول فأبدلك اللَّه خیراً منها.

أجاب النبیّ بحزن:

- لا واللَّه ما أبدلنی خیراً منها... آمنت بی إذ كفر بی الناس، وصدّقتنی إذ كذبنی الناس، وانفقت مالها إذ حرمنی الناس، ورزقنی اللَّه منها ذریّة دون النساء. ارتفع صوت عائشة فقالت فاطمة و هی تنسحب بهدوء:

- یا أیها الذین آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبی.

ردت عائشة و قد احمر وجهها غیظاً:

- و اللَّه یا بنیّة خدیجة ما ترین إلّا أن لأُمّك علینا فضلاً و أی فضل كان لها علینا؟!

ما لهذه المرأة لا تفتأ تذكر امرأة توسدت التراب من ثلاث سنین إلا لأنها ولدت فاطمة؟ و فاطمة فتاة تنم عن سیدة كما ینم البلور عما فیه و قد ولدت سیدة النساء. تدخل النبی غاضباً:

- یا حمیراء ان اللَّه بارك فی الودود الولود.

و أردف و هو یكفكف دمعة شرقت من عینیه:


- رحم اللَّه خدیجة.

صرخت عائشة ثائرة:

- إنّك تحبّ فاطمة و علیّاً أكثر منی و من أبی.

ماذا تقول فاطمة لهذه المرأة. هل تقول لها كیف لا یحب علیّاً و قد رباه فی حجره، فلما اشتد عودة آمن به وفداه بنفسه یوم هاجر، و فی بدر و قد نصر اللَّه المسلمین و هم قلة. أتقول لها أن أباك كان مختبئاً فی «العریش» و كان علیّ یقاتل... یقاتل بضراوة فصرع لوحده خمسة و ثلاثین من صنادید قریش من أصل سبعین. ماذا تقول لهذه المرأة التی أفقدتها الغیرة صوابها، ماذا ترید من أبی و زوجی... كانت لوعة تتأجج فی روحها.

- لك اللَّه یا أبی.

و ماذا بوسعها أن تقول... لا لا... لن تقول شیئاً... لن تضیف همّاً جدیداً إلی هموم النبی و قد تألب العرب علیه... لقد تعلّمت فاطمة الصبر... رضعته مع لبن اُمّها.. مرّاً حنظلاً لكنها تعودت مذاقه حتی بات شیئاً مألوفاً.

و فی البیت نادت فاطمة أباها:

- یا رسول اللَّه:

ولكن، لا جواب.. و نادت مرة اُخری یا رسول اللَّه.


كانت كلمات اللَّه تترقرق فی أعماقها: «لا تجعلوا دعاء الرسول بینكم كدعاء بعضكم بعضا».

هتفت فاطمة:

- یا رسول اللَّه!

التفت الأب العظیم و كان ینتظر منها كلمة أقرب إلی قلبه:

- یا فاطمة! انّها لم تنزل فیك.. أنتِ منی و أنا منك... قولی یا أبه، فانها أحیی للقلب و أرضی للرب.

سأل علی مبتسماً و قد أراد أن یشیع البهجة فی الحجرة:

- یا رسول اللَّه، أنا أحب الیك أم فاطمة؟

ضحك النبی و قال بود:

- أنت عندی أعز منها و هی أحب منك. طافت الابتسامة الوجوه كفراشة تدور بین زهرات ثلاث.

التفت النبیّ إلی ذكری خدیجة و قال مستفسراً:

- یا فاطمة ما كانت حاجتك أمس؟

سكتت فاطمة، لاذت بالصمت...

لقد اكتشف أبوها اذن انها جاءته لحاجة ثم عادت دون ان تسأله، وهاهو الیوم یسألها وهی تود أن لاتسأله، علی أن منظرها یشفّ عمّا بها خاصّة كفیّها فما تزالان تؤلمانها من كثرة ما طحنت بالرحی.


تدخل علی و قد عرف ان فاطمة لن تقول شیئاً:

- أنا أخبرك یا رسول اللَّه... انّها استقت بالقربة حتی أثرت فی صدرها و جرت بالرحی حتی مجلت یداها و انها تسألك جاریة تكون لها عوناً فی ذلك...

شعر النبی بالحزن یعتصر قلبه وانبجست من عینیه الدموع و قال بلهجة تنم عن اعتذار عمیق لابنته:

- یا بضعة محمد، ان فی المسجد اربعمائة رجل ما لهم طعام و لا ثیاب.. فتعجلی یا بنتاه مرارة الدنیا بحلاوة الآخرة...

وأقبل النبی علی عزیزته یرفدها من روحه العظیمة فقال:

- ألا أعلمك ما هو خیر لك من الخادم.

- أجل یا أبه.

- تسبحین اللَّه ثلاثاً و ثلاثین مرّة و تحمدین ثلاثاً و ثلاثین مرة و تكبرّین أربعاً و ثلاثین؛ تلك مئة باللسان و ألف حسنة فی المیزان.

ابتسمت فتاة الأنبیاء. ظهر البِشر فی عینیها العمیقتین عمق البحار... وهمست فی نفسها:

- طلبنا الدنیا فجاءت لنا الآخرة.

و یمرّ عام. تعاقبت فصوله الأربعة و انطوت أیامه ولیالیه.